"جابهني اللواء بكري شخصيا، وأخطرني بالأسباب التي تقرر بمقتضاها تعذيبي، ومن بينها قيامي بتدريس نظرية التطور في كلية العلوم بجامعة الخرطوم، كما قام حارسه بضربي في وجوده. ولم يتجشم الدكتور نافع، تلميذي الذي صار فيما بعد زميلي في هيئة التدريس في جامعة الخرطوم، عناء التخفي وإنما طفق يستجوبني عن الأفكار التي سبق أن طرحتها في الهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم، وعن زمان ومكان إنعقاد اللجنة التنفيذية للهيئة، ثم عن أماكن تواجد بعض الأشخاص – كما جاء في مذكرتي – وكل ذلك من خلال الضرب والركل والتهديد الفعلي بالقتل وبأفعال وأقوال أعف عن ذكرها. فعل الدكتور نافع ذلك بدرجة من البرود والهدوء وكأنما كنا نتناول فنجان قهوة في نادي الأساتذة".
(أجرى الحوار بشرى الفاضل)
اكتسب الدكتور فاروق محمد إبراهيم أستاذ علم النبات بكلية العلوم بجامعة الخرطوم شهرة أكاديمية واسعة داخل الجامعة وخارجها واحتراماً مماثلاً ؛ فضلاً عن عطائه في العمل العام.
ومعروف عن الأستاذ فاروق رصانته وحقانيته ولعله تأثر في ذلك بوالده مولانا محمد إبراهيم النور أحد رواد الحركة الوطنية والقضاء السوداني.
في مطلع الإنقاذ تحديداً في 30 نوفمبر1989م تعرض الدكتوروهو على مشارف الستين لعملية اعتقال وعنف مما سيرويه في هذا اللقاء الذي قمنا به لإحقاق الحق أولاً قبل الضرورات التوثيقية فإلى مضابطه:
- ورد في الفقرة الثالثة من رسالتك للرئيس البشير عبر السفير السوداني بالقاهرة بتاريخ 13-11-2000 ما يلي :
“جابهني اللواء بكري شخصيا، وأخطرني بالأسباب التي تقرر بمقتضاها تعذيبي، ومن بينها قيامي بتدريس نظرية التطور في كلية العلوم بجامعة الخرطوم، كما قام حارسه بضربي في وجوده. ولم يتجشم الدكتور نافع، تلميذي الذي صار فيما بعد زميلي في هيئة التدريس في جامعة الخرطوم، عناء التخفي وإنما طفق يستجوبني عن الأفكار التي سبق أن طرحتها في الهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم، وعن زمان ومكان إنعقاد اللجنة التنفيذية للهيئة، ثم عن أماكن تواجد بعض الأشخاص – كما جاء في مذكرتي – وكل ذلك من خلال الضرب والركل والتهديد الفعلي بالقتل وبأفعال وأقوال أعف عن ذكرها. فعل الدكتور نافع ذلك بدرجة من البرود والهدوء وكأنما كنا نتناول فنجان قهوة في نادي الأساتذة”.
- ندرك مدى إيلام إستعادة تلك الذكريات، لكن التوثيق مهم. نرجو سردا مدققا إن أمكن، خصوصا الأفعال والأقوال التي قلت أنك تعف عن ذكرها ؟
خالص الشكر يا أخي بشرى. إنني أتفق معك تماما على ضرورة التوثيق. كذلك فأنا متيقن أنك تنطلق من أن قضيتي هي قضيتك وقضية الإنسانية والحقوق المنتهكة لكل الناس. هذا ما جمعنا سويا في المقام الأول. وهذا هو موضوع كل عمل إبداعي قرأته لك، وسر إنفعالي به. ولكي أضع الأسئلة والأجوبة في إطارها الصحيح فإنني أستعيد أولا وبالتفصيل أحداث اليوم الأول لإعتقالي، الخميس 30 نوفمبر 1989 دون إغفال شيء، خصوصا الذي كنت أنني أعف عن ذكره، وكنت مرجئا له لحين المواجهة والإعتذار، وقد طال أمدهما. أما أحداث الأيام التالية له فأكتفي بما جاء في مذكراتي السابقة التي نشرت كثيرا. فقط أضيف حوارا أجراه معي مسئول إنقاذي قبل نقلي من بيت الأشباح للسجن العمومي، في وجود بقية المعتقلين، له دلالته بالنسبة لتصريحات نافع اللندنية.
مدونة الخميس 30 نوفمبر 1989
الإضراب والإعتقال والإستقبال والثورة التعليمية في بيت الأشباح
وصلت لمكتبي بقسم النبات في تمام السابعة من صباح الخميس 30 نوفمبر 1989. برنامجي كان مزدحما: إستكمال مقرر تصنيف الكائنات الحية لطلاب بكالريوس العلوم المتوسط بمحاضرة (دوبل) عن الأساس التطوري (الدارويني) لذلك التصنيف، الشهير بإسم تصنيف المملكات الخمس للكائنات الحية، من العاشرة حتى الثانية عشر. تطبيق مختبري للمحاضرة، من الثانية عشر حتى الثانية ظهرا. إجتماع طارىء وعاجل مع اللجنة التنفيذية للهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم، في الساعة الثامنة والنصف صباحا بمكتب رئيس قسم الآثار بكلية الآداب، أبلغني به الأخ الدكتور سراج ابراهيم، رئيس القسم وعضو اللجنة التنفيذية. موضوع الإجتماع بالطبع الإضراب السياسي الذي راجت له الدعوة، وكنت أرى أن الظروف ليست مواتية له. على أي حال فأنا لم أكن عضوا باللجنة التنفيذية، فلماذا يا ترى دعوتي لإجتماعها؟ راجعت تحضير المواد المعملية للدرس التطبيقي مع مساعد التدريس والمساعد الفني، ثم ذهبت للإجتماع النقابي في الموعد المحدد. أخطرتنا اللجنة التنفيذية، التي كان رئيسها الدكتور علي عبدالله عباس معتقلا مع قادة نقابيين وحزبيين آخرين، بأنها تحسبا للإعتقالات التي قد تطال بقية أعضاء اللجنة التنفيذية، قررت تشكيل لجنة لقيادة الإضراب المزمع برئاسة الدكتور محمد الأمين التوم (كان حاضرا)، وأكون أنا نائبا له. كذلك تقرر التنسيق مع النقابات المهنية الأخرى، ثم اللقاء في الثامنة من صباح السبت في مكان يحدد لاحقا، لإتخاذ خطوات الإضراب النهائية. لزمت الصمت تماما إزاء عضوية هذه اللجنة الfate accompli التي لم يشاورني بشأنها أحد، و الإضراب الذي لم يدرس بجدية وكان يصب، في تقديري، في مصلحة نظام الإنقاذ. غادرت على عجل إلى الشق الأكاديمي من البرنامج، ومنه لبوابة الجامعة الشرقية في تمام الساعة الثانية بعد الظهر. ضابطا أمن واقفان أمام سيارتي. الإعتقال بعد إبراز البطاقات الأمنية، بلا مقاومة من ناحيتي، والترحيل مخفورا بين الضابطين في سيارة اتجهت بنا لرئاسة الجهاز بالخرطوم.
وقد إشتبكت في إحدى القاعات بالأيدي مع مسئول كان يحمل كلاش تعامل معي بفظاظة. أومأ لي الأستاذ هاشم محمد أحمد، نقيب المهندسين الذي سبقني للجهازمع آخرين، بعدم الإستجابة للإستفزاز. حدجني المسئول الأمني، مندهشا للتجرؤ على الإحتجاج والإشتباك، وكأنما يتفقد حشرة صغيرة. باب غرفة يفتح، يخرج منه الطيار جرجس الذي تم اعدامه مع الشاب مجدي محجوب لاحقا، وتم زجي بداخلها. لم تكن تلك الزنزانة تتسع لأكثر من الجلوس أو الوقوف لشخص واحد، ولم يكن بها منفذ للضوء أو الهواء. ظلام أساسي دامس لم يسبق أن تخبرت مثيله أبدا. أخرجت بعد حوالي ربع ساعة واقتدت للسطوح، حيث أجلست في مقعد وألبست قمعا تستحيل معه الحركة. صبية وقفوا حولي وهم يتلهون ويكيلون السباب. أجلست بعد قليل في صف مع آخرين على سور المبنى، بإنتظار الدور للتحقيق. أقتدت بعد تسجيل المعلومات الأساسية (الأسم، السكن، العمل إلخ) لفناء المبنى، حيث عصبت عيناي وحشرت في سيارة انطلقت لما أدركت لاحقا في مساء نفس اليوم أنه المقر السابق للجنة الإنتخابات، وأطلقنا عليه لقب بيت الأشباح رقم 1 فيما بعد. ثمة صبية آخرين يتلهون بعدما اقتدت من السيارة معصوب العينين: أقفز فوق هذه البئر. تشهد، أنت مقبل على الإعدام، وغير ذلك من الترهات والسباب.
ثم أجلست في بيت الأشباح على كنبة، وقام شخصان متمرسان بتسديد لكمات متلاحقة لي في الرأس والوجه وسائر أجزاء الجسم في صمت، وغادرا المكان. أشخاص يتبادلون الحديث يدخلون بعد فترة. خاطبني أحدهم قائلا: نحن خارجين الآن يا فاروق من إجتماع قررنا فيه ثورة تعليمية. سنقوم بتعريب كل العلوم ونضاعف القبول في جامعة الخرطوم وننشىء جامعات جديدة كثيرة، ما رأيك؟ قلت إنني لا أعارض التعريب، ورأيي في التجربة سأقوله بعد أن تتحقق. لا تعليق. وجبة أخرى من اللكم والركل من ذات الأشخاص المتمرسين. العصبة تفك من عيني بعد قليل. جندي لا يكاد يتجاوز سن العشرين هو الذي فعل ذلك. كنا وحدنا في صالون كبير. قال لي الجندي بتأثر: يا عم فاروق ديل ناس بطالين جدا. أنا ح أفك الربطة من رأسك وأعيدها بطريقة تخليك تشوف الناس ديل كويس وتعرفهم. هذا ما فعله، وبسرعة. قفزت لذهني أول الأمر صورة المحققين في أدبيات الجاسوسية والثورات الذين يناوبون التعامل “الساخن” ب “البارد” لإرباك وكسر المعتقلين.
الدكتور نافع والإستجواب والتهديد بالإغتصاب والقتل
فترة إنتظار. يدخل الصالون حوالي 8 أشخاص. الجالس منهم قبالتي يتولى الإستجواب. عصبة العين فعلا شفيفة وخفيفة. الجندي الشاب وعد وفعل. السؤال الأول عن المكان المقرر لإنعقاد لجنة النقابة التنفيذية. هذا الصوت لذات الشخص الذي تفضل بإبلاغي بقرارات الثورة التعليمية وأنا معصوب العينين، حارة وفي حينها. تركيز النظر من تحت العصبة، دون لفت الإنتباه لحقيقة شفافيتها. إنه الدكتور نافع علي نافع. حقيقة لم تكن هنالك علاقة شخصية مباشرة بيننا. لكنه كان طالب برلوم سنة 1966، حينما كنت محاضرا بقسم النبات بكلية العلوم. لم أتذكره بالطبع، لكنني حسبت ذلك حسابا دقيقا حينما أبلغنا الدكتور فرح حسن أدم، عميد كلية الزراعة حين وقوع الإنقلاب، أنه من خريجي العام 1971، وأنه انتدب بخطاب رسمي تمويهي للعمل “بالأمن الغذائي”. كلنا كنا نعلم بالطبع أي أمن انتدب له. كنت أتردد على كلية الزراعة التي منها تخرجت كثيرا، وكان يتردد بنفس الوتيرة على قسم النبات الذي تولى فيه تدريس بعض المقررات التي خلت له بعد أن فصلت من الجامعة على عهد النميري. ونافع زميلي في الهيئة النقابية لأساتذة جامعة الخرطوم في حقبة الإستقطاب السياسي المحتدم …. فكيف تخطئه العين؟ وإليكم تفاصيل الإستجواب الذي يكشف بلا مواربة شخصية المستجوب:
نافع: اللجنة التنفيذية للهبئة النقابية للأساتذة ستجتمع في الساعة الثامنة من صباح السبت بعد غد لموضوع الأضراب. أين سيكون الإجتماع؟
قلت: أنا لست عضوا في اللجنة التنفيذية، فلم تسألني هذا السؤال، أنا طبعا لا أعرف.
نافع: محمد الأمين التوم يتردد عليك كثيرا. “ساكن” في مكتبك تقريبا.
قلت: محمد الأمين التوم أحيانا “يسكن” في بيتي، لأنه صديقي، ما الغرابة في ذلك؟
نافع: كان لك رأي غريب في الجمعية العمومية للهيئة النقابية عارضت فيه مطلب زيادة المرتبات للأساتذة، ماذا كنت تعني؟ (كانت اللجنة التنفيذية للهيئة النقابية طالبت قبيل إنقلاب 30 يونيو برفع مرتب الأستاذ إلى 6 آلاف جنيه، ما يربو على ثلاثة أضعاف المرتب الذي كان يتناقص يوميا بفعل التضخم المفرط. وكان رأيي القبول بالتناسب السائد حينئذ للأجور والمرتبات، وعوضا عن الزيادة نطالب بربط الأجور والمرتبات مع مؤشر إرتفاع الأسعار للجميع، وذلك تفاديا لتضارب مطالب المهنيين الذين يتشكل منهم التجمع النقابي، ما يقود لإجهاض مكاسب إنتفاضة أبريل السياسية).
قلت: وهل هذا هو المناخ والطريقة التي نناقش بها مثل هذه الإمور؟
نافع: تصلنا تقارير كثيرة عن تشاطك المعارض. هل لديك أعداء يفعلون ذلك؟
قلت: لي مخالفين في الرأي، أما الأعداء فلا علم لي بهم.
نافع: أين يختفي عبدالحميد علي (ذكر عددا من أسماء الشيوعيين المعروفين، من بينهم عبد الحميد علي، النقابي المتفرغ بالحزب الشيوعي).
قلت: أنا بالكاد أعرف عبدالحميد علي، فكيف أعرف المكان الذي يختفي فيه؟ وكذلك بالنسبة للآخرين.
نافع: ماذا كانت خلافاتكم، أنت وأحمد سليمان ومعاوية ايراهيم مع عبد الخالق محجوب؟
قلت: هل هذا هو مكان وطريقة مناقشة مثل هذه المواضيع؟ (همس وتساؤل إن كان حتميا تغرض نظامهم لمثل هذا الصراع لاخقا، وكأنما ينتظرون الجواب مني. لا تعليق من جانبي. طمأن أحدهم الآخرين بمناعة الإسلاميين من مثل هذه الإنشقاقات).
نافع: من هم الذين خرجوا معكم من الحزب الشيوعي؟
قلت: هذه أسماء معروفة، لكن رجولتي لا تسمح لي بالرد على هذا السؤال.
( صاح شخص من خلفي بالقاعة، أسميته حينها “المغتصب العام” وأرمز له هنا ب م.ع.
م.ع: “مسالة رجولتك دي خليك منها. حننتهي منها بعد شوية”).
نافع، مواصلا ما سبق: كتبتم أنت وفاروق أبوعيسى وسمير جرجس للحزب الشيوعي، قلتم أنكم عايزين تناضلوا. خذ ناضلوا.
قلت: لم أقل ذلك.
نافع: ماذا قلت؟
قلت: كل ما في الأمر أنه كانت لي خلافات مع الحزب الشيوعي قمت بتسويتها
(شعرت خلال السجال مع نافع ب (م.ع.) يحلس بجانبي، ويده تندس تحت القمبص وتتلمسني بطريقة أقنعتني أن التهديد بالإغتصاب تحول إلى شروع في الإغتصاب).
أردفت مواصلا الرد على نافع:
………لكنني يمكن أن أعطيكم كل المعلومات التي تطلبونها، شريطة أن يكون معكم رئيس أركان الجيش، الفريق إسحق أبراهيم عمر.
نافع وآخرين، بإستغراب، في وقت معا: ما دخل الفريق يهذا؟
قلت: إنه منكم، وأستطيع في نفس الوقت أن أتعامل معه بثقة، لأنه قريبي
(العصبة تسقط عن عيني تماما، ولا أحد يلاحظ أو يكترث. آمر شاب، فلنرمز له بالأحرف (أ.ش)، كان صامتا، يدخل في الخط ).
(أ.ش) : ماهي قرابتك للفريق؟
قلت: خالي
(أ.ش) ، بإنفعال : قلت لكم ألف مرة أن إسحق لا يصلح لهذا المنصب.
(م.ع)، بعد أن سحب يده من تحت قميصي، مغنيا بصوت خنثوي سخلي، أستطيع تمييزه في “طابور” صوتي مليوني: يا خالييييييييييييييييييييييييييييييييييييييي. حنان بلوبلو. ألا تحبها؟
(أ.ش) موجها الكلام للحضور: قلت لكم أن إسحق لا يصلح لهذا المنصب.
ثم، موجها لي الكلام: وأنت لن تخرج من هنا حيا بعد كل الذي جرى.
نافع، مواصلا الإستجواب، بهدوء: غدا الساعة 8 صباحا تفيدنا بمكان إجتماع اللجنة التنفيذية وأماكن تواجد الأشخاص المطلوبين.
قلت: لماذا غدا، فأنا أقول لك الآن أني لا أعرف.
(أ.ش) يخرج مغاضبا، يتبعه الآحرون.
نافع، وهو خارج أيضا، يتناول ورقة وقلم. يكتب المطلوب بخط يده ويمد لي الورقة. رددتها له، مكررا، “قلت لك أني لا أعرف”. (م.ع) يمسك بالورقة ويضعها في يدي، ثم يضع يدي والورقة معا في جيب قميصي. إبتسمت أبتسامة عريضة برغم الوضع المزري. كان واضحا أن كرت الفريق إسحق، وليد اللحظة، أفلح في قلب المائدة عليهم. علاوة على ذلك، فكما يقول عنوان أحد أفلام إحسان عبدالقدوس عن حرب أكتوبر 73: الرصاصة لا زالت في جيبي.
أعاد الجندي ربط العصبة في رأسي وقام بتسليمي لجندي آخر في نفس المبنى. أدخلني هذا الأخر في الحمام الصغير القذر الشهير حيث قمت بفك العصبة عن عيني. لم يبد لي بسبب الهدوء أن هنالك نزلاء بالمبنى غيري. أدهشني هذا الجندي لأنه، كسابقه، كان إنسانيا رائعا. لم يبد تعاطفه معي بالكلمات، لكنه كان يغني ويدوبي طول الليل، ويعينني على معرفة المكان الذي كنت فيه بالأسئلة. في مرة من المرات مد لي بعض أوراق لجنة الإنتخابات المشتتة على الأرض، وقال لي: خمن، أين أنت؟ شربت الماء الذي قدمه لي، لكنني إمتنعت عن أكل ساندوتش الفول.
أما بقية أيام بيت الأشباح التي استمرت حتى فجر 12 ديسمبر الذي نقلنا فيه إلى السجن العمومي بكوبر، فليس هنالك ما أرغب في إضافته لما جاء في مذكرتي للرئيس البشير سوى الطريقة التي أخطرت بها بقرار نقلي من بيت الأشباح إلى السجن العمومي (كوبر). فقد سمعنا عند منتصف تلك الليلة همهمة وحركة غير عادية، ومسئول تتبعه حاشية يسأل: أين فاروق؟ لم يفتح باب الحمام، لكن المسئول ناداني بإسمي من خارجه، ودار الحوار التالي:
المسئول: ليس لنا شيء ضدك يا فاروق.
قلت: إذن لماذا هذه المعاملة؟
المسئول: إن لك مكانة في جامعة الخرطوم. أليس كذلك؟
قلت: آمل أن يكون ذلك كذلك.
المسئول: إن علينا إتخاذ الإحتياطات الكفيلة بحماية النظام.
قلت: ألا يكفي الإعتقال التحفظي؟
المسئول: (صمت).
قلت: هل يمكن أن يسمح لنا بالخروج للحمام؟
المسئول: رد بالإيجاب، وأمر بذلك، وبتوفير عشاء لنا.
سمح لنا فعلا بالخروج للحمام، واحدا بعد الآخر، وأولمنا بقدح فول كبير ساخن. بعد ذلك نودي بإسمي، ضمن آخرين، للخروج إلى باحة البيت، ومن ثم نقلنا، تسعة عشر من القادة النقابيين، إلى كوبر، ولم يكن قد تبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض من الفجر. أما بدرالدين، الذي ساءت حالته كثيرا، فقد نودي بإسمه محولا للسلاح الطبي.
- جاء في مذكرتك للرئيس البشير عن مأساة المعتقل بدرالدين ما يلي:
“إنني أكتفي فيما يخص حالتي بهذه الأدلة الدامغة. ومع أن هذا الخطاب يقتصر، كما يدل عنوانه، على تجربتي كحالة إختبارية، إلا أن الواجب يقتضي أن أدرج معها حالة موظف وزارة الإسكان السابق المهندس بدرالدين إدريس التي كنت شاهدا عليها. وكما جاء في ردي على دعوة نائب رئيس المجلس الوطني المنحل الأستاذ عبدالعزيز شدو للمشاركة في حوار التوالي السياسي بتاريخ 18 أكتوبر 1998 (مرفق) فقد تعرض ذلك الشاب لتعذيب لا- أخلاقي شديد البشاعة، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن فقد عقله وقام بذبح زوجته ووالدها وآخرين من أسرته. كان في ثبات ذلك الشاب الهاش الباش الوسيم الأسمر الفارع الطول تجسيدا لكرامة وفحولة وعزة أهل السودان. وكان أحد الجنود الأشد قسوة – لا أدري إن كان إسم حماد الذي أطلق عليه حقيقيا – يدير كرباجه على رقبتينا وجسدينا في شبق. وفي إحدى المرات أخرج بدرالدين من بيننا ثم أعيد لنا بعد ساعات مذهولا أبكم مكتئبا محطما كسير القلب. ولم تتأكد لي المأساة التي حلت ببدرالدين منذ أن رأيته ببيت الأشباح عند مغادرتنا لبيت الأشباح منتصف ليلة 12 ديسمبر 1989 إلا عند إطلاعي على إحدى نشرات المجموعة السودانية لضحايا التعذيب هذا الأسبوع. ويقتضي الواجب أن أسرد تلك اللحظات من حياته وأنقلها لمن تبقى من أسرته. فكيف بالله نتداول حول الوفاق الوطني بينما تبقى هذه الأحداث معلقة هكذا، بلا مساءلة”
- هل هنالك ما تود أن تضيفه لهذه الحالة؟
لا. وهل هنالك حاجة لأية إضافة؟
- ورد في الصحف في مارس الماضي أن نيابة أمبدة فتحت بلاغا ضدك وآخرين بتهمة التحريض على الكراهية وإشانة سمعة جهاز الأمن لزيارتكم لأسرة صفية إسحق التي تعلقت بدعوى تعرضها للإغتصاب في الجهاز بواسطة منسوبيه بمكاتبهم بالخرطوم بحري. هل حقيقة تم إعتقالك والتحقيق معك؟ ما الذي جرى بالضبط؟
ما جرى أنني علمت بقصة دعوى إغتصاب صفية إسحق من عاملين في مجال حقوق الإنسان كانوا على قتاعة بتلك الدعوى، واستجبت للدعوة لزيارة تضامنية لأسرتها بغرض المؤازرة والمناصرة، خاصة وقد عجزت صفية عن إبلاغهم بحقيقة ما جرى لها، لأسباب مفهومة تماما. وقد نقلت المجموعة التي شاركت في الزيارة المشكلة من الدكتورة عشة الكارب، والأستاذة سارة نقدالله والدكتورة مريم الصادق المهدي والدكتورة إحسان فقيري والدكتور الباقر العفيف وشخصي للأسرة في الزيارة التي تمت عصر الجمعة 26 فبراير أن صفية كانت في حالة إنهيار وخوف على حياتها، وأنها سافرت إلى جوبا، بوصفها الملاذ الأكثر أمانا لها من سطوة أجهزة الأمن، ومن ثم أوصلوهم بها تلفونيا، عبر أقارب للأسرة يعملون بجوبا. وما قلته في تلك الزيارة التي أذيعت صوتيا عبر الإنترنت، أنني اصدق تلك الدعوى لتجربتي الشخصية. وقد سردت لهم مأساة المهندس بدرالدين وأشدت بشجاعة بنتهم التي تستدعي تضامنهم لكيلا تتكرر المأسآة. كذلك ذكرت لهم أن المحكمة برأت بدرالين في تلك القضية التي دافع عنه فيها المحامي مصطفى عبدالقادر وكتب عنها في الصحف. ذكرت لهم أن المتهم الحقيقي الذي ينبغي ألا يفلت من العقاب هم الذين عذبوه بالصورة التي أودت به للجنون.
وقد أبلغتني كل من الأستاذة سارة نقدالله والدكتورة مريم الصادق بتاريخ 4 و5 مارس الماضي على التوالي، والدكتور الباقر العفيف في تاريخ لاحق، أنهم مثلوا أمام وكيل نيابة أمبدة الذي أخطرهم ببلاغ ضدهم بناء على طلب جهاز الأمن، بتهمة إستدراح صفية أو الحض على الكراهية أو إشانة سمعة الجهاز، لا أدري إن كان البلاغ بإحدى التهم أو بها كلها، وأنهم أفرج عنهم بضمانة شخصية، وأن وكيل النيابة يطلب جضوري لنفس الغرض. وقد إمتنعت عن المثول أمام الشرطة بتلك الدعوة الشفاهية، وطلبت خطابا رسميا بالتهمة والأمر بالمثول، لو أن ثمة تهمة توجه لي. وها قذ مضى قرابة نصف عام وما من ذكرللبلاغ. واضح إذن أن وكيل النيابة تغاضي تماما عن إصدار بلاغ لا تسنده بينة على الإطلاق. ولو أن ثمة بلاغ ينبغي صدوره، فالأحرى أن يكون بصدد مأسآة بدرالدين التي لن يفلت مرتكبوها من العقاب، طال الزمن أم قصر.
- ذكر الراحل الصادق الشامي المحامي الذي توفي في 8 يوليو 2011م أنه عندما كان المعتقل بدرالدين قد جاء ينزف ثم فقد الوعي طرق المعتقلون الباب فصرخ فيهم الحراس، وأنت كنت معهم، مالكم يا وهم؟ ونقل إليهم المعتقلون حال بدرالدين وجاء رد الحراس: ما معاكم دكتور فاروق محمد ابراهيم خلوه يعالجه فرد عليهم فاروق بأنه دكتور في الزراعة وكان ردهم العجيب، ما كلو واحد. نريد التأكيد على ما قاله الراحل الصادق الشامي وأن تعلق على الحادثة إن كنت تذكر؟ .
فعلا تنصت الأستاذ الصادق، عطر الله ثراه، لهذه المحادثة حينما كان مستضافا بحمام القاذورات ذي الأبعاد 100سم في 80 سم، مقامي الأول، وقام بسردها في سلسلة مقالات شهيرة بصحيفة الأيام. ولست أنت يا أخي بشرى أول من يطلب تأكيد ما قاله الراحل. فقد فتح الأمن إثر تلك المقالات بلاغا ضده بتهمة التشهير، فاستنجد الراحل بقائمة من الشهود كنت أولهم. إستفسر وكيل النيابة، وهي تقع في ملتقى شارع السيد عبدالرحمن مع شارع الحرية، عن مدى علمي بما ورد في المقال، فأكدت له لا ما كتبه الصادق وحسب ولكن ما كتبته أنا أيضا. وكان هذا كافيا لأن تغلق القضية ويسدل عليها ستار النسيان، ولم يستدع شاهد آخر بعدي.
إن تذكر ما جرى لبدرالدين مؤلم ومقرف تماما. ولا أدري حتى الآن لماذا نكلوا به بهذا القدر. كان الأقوى والأطول والأشد حيوية والأصغر سنا بيننا (30 سنة حينها)، وربما ذلك كان السبب. ولم يكن الضرب والتعذيب الذي تعرض له سائر المعتقلين كافيا لكسر شوكته. لم يتم لهم ذلك إلا بعدما صاروا يأخذونه من بيننا لفترات طويلة، ليعود لنا أبكم كسير القلب كما ذكرت. وأذكر أن أحد الحراس صاح فينا مرة، وبدر الدين بينناا: “اللباس المشرور بره حق منو”؟ فلم يرد أحد، لأنه أصلا لم يسمح لنا بغيارات أو الخروج للغسيل أو غير ذلك. كرر الضابط نفس العبارة، ولما لم يرد أحد وجه الكلام لبدرالدين بخبث: “اللباس البره ده مش لباسك؟” أومأ بدر الدين في ذهول بالإيجاب، فقال له الضابط، “أمشي ألبسه وتعال”. وحينما عاد بدر الدين أمره الضابط أن ينبطح، ثم تناول سوطا بيده وقال لنا: ” ده انتهى خلاص. خذوا السوط وأضربوه أنتو. إذا ضربته أنا ضربي شديد ما بيستحمله”. أمسك أحدنا بالسوط الذي مد إليه، ونظر إليه وإلى الضابط، ثم رمى به في الأرض. بدرالدين كان جثة هامدة تماما، أشبه بدمية من الدلاقين، طوع إرادة الضابط، فاقدا كل إحساس. وكان ذلك لقائي الأخير به، إذ نودي بنا في منتصف الليل للإفراج النسبي بكوبر، ونودي به للسلاح الطبي العسكري,
- هل تسلمت أي رد على أية مذكرة من المذكرات التي بعثت بها للنظام؟
لا
- أوردت في مذكرتك خمسة أدلة على صدق ما جاء فيها،أولا، الإفراج عنك بعد تقديم المذكرة الأولى يعني قبول ما جاء فيها ، ثانيا، التقرير الطبي وشهادة إدارة السجن، ثالثا، الزملاء ببيت الأشباح وقادة المعارضة بكوبر شهود بما خبروا وشاهدوا وسمعوا منك، رابعا، شهادة الفريق إسحق رئيس الأركان بما شهده وما سمعه منك، خاصة عن التحقيق وخامسا، شهادة مراسل الفينانشيال تايمز، المستر أوزين في المقال الذي كتبه. هل تضيف شيئا جديدا؟
الدليل الأهم هو صمت نافع وغيره من المسئولين عما يتعلق بهم مما جاء في المذكرات. لقد نشرت مذكراتي في وجودي داخل القطر وليس خارجه، وأعلنت ما جاء فيها في كل مناسبة وكل مكان، في وجود المسئولين، وأثرتها في المحافل والمحاكم الدولية. ولم ترفع قضايا ضدي لسببين، الأول أنهم يعترفون بحدوث كل ما جاء فيها، ويعتبرون أن التعذيب بلا ضوابط ولا حدود، بما في ذلك إغتصاب الرجال والنساء، حق مشروع للدفاع عن نظامهم السياسي. وفي رأيهم أن بلد فيها حرب أهلية ومعارضة تهدد بالإطاحة بالنظام لا يمكن أن تكون فيها حقوق إنسان “بهذا الشكل” على قول نافع. هذه عقيدتهم. والسبب الثاني أنهم يراوغون بشأن إعلان هذه العقيدة لمجافاتها لكل الشرائع الدينية والوضعية. كما أن اللجوء للمحاكم يضطرهم إما للتدخل الفاضح في مسيرة العدالة في الحالات الواضحة كحالتي، أو الكذب الفاضح لمسئولين كبار تحت القسم، أو التمادي في إصدار التشريعات التي تقنن تلك الممارسات، كقوانين الحصانة للمسئولين، وسقوط الدعوى الجنائية بالتقادم. وأقدم هنا ثلاثة شهادات جديدة.
الشهادة الأولى: نافع/المحبوب عبد السلام
نقل المحبوب عبدالسلام في جريدة الصحافة بتاريخ 17 أغسطس 2008م (مرفق1)، على لسان كل من الدكتور نافع والشاعر صلاح أحمد إبراهيم، وذلك في سياق تجربه المحبوب لتوثيق صلة صلاح بالإنقاذ، حينما كان مسئولا للإعلام الخارجي، حوارا أقتبس منه ما يلي:
” قال لي (صلاح) أنه يريد أن يقابل مدير جهاز الأمن فأخبرت نافع علي نافع وكان يتقلد هذا المنصب في ذلك الوقت فقال لي نافع أن صلاح إذا جاء في السودان سأقابله وإذا ذهبت إلى أوروبا سأغشى باريس بالتخصيص لمقابلته وفعلا أوفى د. نافع بوعده فعندما جاء صلاح ذهبنا أنا وهو إلى نافع وأثار معه صلاح موضوع فاروق محمد ابراهيم وقال لنافع، “أنا أسمع حديثا عن بيوت الأشباح وأسمع أنكم ترفضون هذا الحديث ولكن هنالك شخص واحد لا يمكن أن يكذب وهو فاروق محمد ابراهيم” وهذه شهادة أرويها من صلاح عن فاروق محمد ابراهيم فصلاح وصف فاروق بأنه لا يكذب ونافع نفسه كان يقول أن فاروق لا يكذب لأنه يعرفه شخصيا ولذلك إتفق نافع مع صلاح في هذا الطرح وقال نافع لصلاح “ينبغي أن تعذرنا فبلد فيها حروب لا يمكن أن يكون فيها حقوق إنسان بهذا الشكل”.
الشهادة الثانية: الصحفي الأمريكي ادموند ساندرز
زارني السيد ادموند ساندرز بمنزلي بالخرطوم، ولم تكن لي به سابق معرفة. قال انه اطلع على رسائلي للرئيس البشير، وأنه يزمع مقابلة د. نافع الذي أوكل له ملف دارفور، ويود أن يستوثق مني عن ما جاء عن الدكتور نافع في تلك الرسائل، ويستأذن أن ينقل عني للدكتور نافع ما أقوله بلساني، فأذنت له، وقلت كل الذي جرى يإشراف نافع، بلا رتوش. وأرفق لك هنا يا أخي بشرى المقال الذي كتبه المستر ساندرز في صحيفتي لوس أنجلوس تايمز الأمريكية والسنداي تايمز البريطانية (مرفق 2). وتلاحظ يا أخي بشرى أولا أن الدكتور نافع لا ينفي الوقائع المتعلقة بالتعذيب الذي ورد في رسائلي وتم تحت إشرافه المباشر، وثانيا، يكلمات ساندرز…” لم يعبر نافع، بطريقته المعهودة، عن أي اسف أو أسى، قائلا أن ناشطي المعارضة كانوا في ذلك الوقت يدبرون إنقلابات مضادة وحربا أهلية. “لقد كنا هنالك لحماية أنفسنا”، قال هازا كتفيه. “نحن بالتأكيد لم نجيء لكي نلعب معهم الكوتشينة”.
الشهادة الثالثة: رئيس الأركان الفريق أول إسحق أبراهيم عمر
أرفق لك يا أخي بشرى نص الحديث الذي أدلى به رئيس الأركان السابق للصحافة، عدد الخميس 6 ديسمبر 2007، تحت عنوان “د. فاروق هو الذي أرشدنا لأحد بيوت الأشباح” (مرفق3)، وأقتطف منه التالي:
“عندما قابلت د. فاروق حكى لي بالتفاصيل عملية التعذيب التي تمت له. بل ذهب أكثر من ذلك فوصف لي ذلك البيت. من سجن كوبر توجهت وبرفقتي الفريق علام إلى مكان ذلك البيت ووجدت هناك رائدا إسمه يوسف وقمنا بتفتيش المنزل ولم نجد معتقل من حسن حظهم. بعد رجوعنا للقيادة العامة قام المشير البشير بإستدعائنا، وعندما ذهبنا إلى مكتبه وجدنا معه التجاني آدم الطاهر……فسألني المشير، هل “مشيتو” لأحد البيوت التي يقال بأن بها معتقلين؟ فأجبته نعم، لقد “مشينا” لأن البلد تحكم بواسطة الجيش وأنا رئيس هيئة الأركان، فلا يمكن قبول مثل هذه التصرفات. والناس عندما استبشرت بالإنقاذ كانت صادقة معها بأن لا تتكرر أخطاء الماضي. فطلب مني المشير البشير عدم تكرار مثل تلك الزيارات فقلت له والله إذا نما إلى علمي أية معتقلات خارج السجون فسأقوم بزيارتها”.
وشهادة الفريق إسحق واضحة تماما. وكما ذكرت سابقا فقد أطلعت الفريق إسحق عند زيارته لي بالسجن بأدق تفاصيل الإستجواب الذي أشرف عليه النافع, والفريق إسحق ليس الشخص الوحيد الذي قمت بإطلاعه على التفاصيل الدقيقة لهذا الإستجواب، في حينه. وكلهم يمكن أن يشهدوا على ذلك تحت القسم في محكمة.
ولا يفوتني أن أذكر هنا أن الأستاذ التجاني الطيب الذي أحيل معنا لزنازين البحريات أولا ثم الكرنتينة لاحقا هو والأستاذ محمد ابراهيم نقد، وذلك فور وصولنا للسجن لعمومي ، أن الأستاذ التجاني حرص على حفظ سجل لأقوال كل من جاء في دفعتنا والدفعات التالية من بيوت الأشباح، وأنه قام بالتصوير الفوتوغرافي بنفسه في الحالات التي استدعت ذلك ( ويسأل الأستاذ التجاني إن كان استعان بجن شيوعي لتسريب الكاميرا). وقد كلف الأستاذ التجاني الدكتور حمودة فتح الرحمن، عطر الله ثراه، للقيام بتسجيل أقوالي بكل ما تعرضت له في بيت الأشباح رقم واحد.
- لكن مع كل تلك الأدلة الدامغة، فقد قررت المحكمة الدستورية شطب قضيتك، وأصدر كل من الدكتور نافع والفريق قوش بيانات صحفية عقب صدور الحكم في مطلع العام قبل الماضي أعلنا فيهما ثبوت براءتهما وبراءة جهازهما من الإتهامات التي أثرتها، أليس كذلك؟
ليس بالضبط كذلك يا أخي بشرى. صحيح أن المحكمة الدستورية قررت شطب القضية التي رفعها نيابة عني تسعة من كبار المحامين، على رأسهم البروفسير محمد ابراهيم خليل والمرحوم الصادق الشامي المحامي. لكن القضية التي تقدم بها المحامون المحترمون لم يكن موضوعها إدانة نافع أو قوش أو أي شخص آخر. فكما جاء في إحدى المذكرات التي قاموا برفعها للمحكمة الدستورية (مرفق4):
“أولا: تقدم الطاعن بضع مرات بالشكوى إلى المسئولين وعلى رأسهم السيد رئيس الجمهورية طالبا رفع الضرر الذي ألم بالطاعن عن طريق التحقيق وإتخاذ الإجراءات اللازمة الأخرى. ثانيا، وبما أن ثمة نصوصا تشريعية تقف حائلا بين الطاعن وبين محاكم العدل، (وعليه) فإن الطعن الذي تقدمنا به إلى المحكمة الدستورية لا يشمل طلبا لإتخاذ أي إجراء سوى إعلان يصدر من محكمتكم الموقرة بأن تلك النصوص التشريعية تنطوي على إنتقاص فادح لحق التقاضي الذي يكفله الدستور”.
فأين لهما هذه البراءة والمحكمة الدستورية التي ليس من إختصاصها ولم يطلب منها التحقيق أو النظر فيما ارتكبه أحدهم أو الجهاز الذي توليا تأسيسه وقيادته؟ ما طالب به السادة المحامون هو إلغاء المادة 32 ب من قانون قوات الأمن الوطني التي تضفي حصانة على منسوبي حهاز الأمن، والمادة 38 من قانون الإجراءات الجنائية التي تسقط الدعوى بالتقادم، وذلك لتعارضهما مع المادة 35 من الدستور التي تكفل حق التقاضي، والمادة 31 منه التي تكفل المساواة أمام القانون. وقد أبقت المحكمة الدستورية على هذه القوانين التي أرى أنها تنتقص من حقي الطبيعي في التقاضي والمساواة أمام القانون، وتحول بيني وبين مواجهة الدكتور نافع في المحاكم، لكنها لم تحكم لا ببراءة نافع ولا الجهاز عن الإتهامات التي جاءت في مذكراتي ضدهما.
- هل المحكمة الدستورية آخر المطاف من حيث التقاضي؟
في السودان، نعم. فليس بوسعي مقاضاة نافع أو جهاز الأمن في ظل الحصانة القانونية التي يتمتعون بها وفي ظل قانون التقادم. لكن الجريمة المتهم بها نافع بحقي هي جريمة ضد الإنسانية تخضع للتقاضي في أي بلد متحضر، ولاتسقط بالتقادم. وحكم المحكمة الدستورية في تقديري يسلب حقي في المساواة أمام القانون وفي التقاضي. هذا هو لب الدستور الذي ينبغي التوافق عليه بين السودانيين. وأيا كانت النصوص فلن يكون هنالك دستور ديمقراطي ما لم يكفل لي حق التقاضي ضد نافع وجهاز الأمن برغم مرور أكثر من عشرين عاما على الجريمة. وهذا ما عنيته من وصف قضيتي للرئيس البشير بأنها حالة إختبارية. إنها إختبار حقيقي للحقوق الدستورية. وقد لجأت للتقاضي ضد نافع في بريطانيا قبل أكثر من عشر سنوات لأن سبل التقاضي في المحاكم الوطنية سدت أمامي، لكن الحارجية البريطانية سربت خبر أمر الإعتقال لنافع تفاديا للحرج، ما اضطره للهروب منها عبر البحرين ودمشق في اقل من إثني عشر ساعة من تنفيذ الإعتقال. وقد توقفت عن المقاضاة في الخارج حينما أقيمت المحكمة الدستورية في السودان في العام 2006 وسمح لي بالتقاضي عن طريقها. وبعدما صدر الحكم بإسقاط الدعوى الذي أرفضه لجأت للمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان التابعة للإتحاد الإفريقي،والقضية لا زالت قيد النظر. وإذا لم تتحقق لي العدالة عن طريقها فسألجأ إلى المقاضاة في هذه الدنيا بأية وسيلة أخرى متاحة. وآخر الأمر فالحكم لشعب السوداني بعد الله. والشعب السوداني قادر على إسقاط أي نظام فاسد ظالم كما خبرنا في أكتوبر وأبريل، وكما تشهد الشعوب العربية الآن.
- لكن نافع ينفي معرفته بك؟
لو أن نافع يعني أنه ليست هنالك علاقة أو معرفة شخصية بيننا فهو محق. أما لو أنه يقول، أنا لا أعرف فاروق بصفة شخصة، إذن فإتهامه لي بتعذيبه باطل، فهذا كلام له خبيء، معناه ليست لنا عقول. الفريق بكري حسن صالح حاضرني في نظرية التطور التي علم بآخر درس ألقيته فيها، وعلم بموقفي السياسي المعارض لنظامه، كما قال لي حينما ضربني حارسه في وجوده، وأنا لا أعرفه شخصيا وهو لا يعرفني شخصيا. ما الغرابة في ذلك، وأي منطق هذا الذي يقول به نافع؟. فلندع حقيقة أنني كنت أستاذا في جامعة الخرطوم في كلية هو درس فيها، وحقيقة أن لي موقفا سياسيا واضحا أعتقلت وفصلت من الجامعة بسببه حينما كان هو من الطلاب النشطين سياسيا المعارضين لموقفي، كيف يقول أنه لا يعرفني وقد كنا عضوين منتخبين في نفس الجمعية العمومية المنتخبة لأساتذة جامعة الخرطوم. وكيف تسنى له أن يستجوبني عن أفكار طرحتها في الجمعية العمومية التي كان حاضرا إجتماعها بينما هو لا يعرفني. وهل تحول عدم معرفته بي دون معرفتي له، وقد كان يتردد كثيرا على قسم النبات الذي أعمل فيه، بينما كنت أتردد بنفس القدر على كلية الزراعة التي كان يعمل بها، خاصة وقد كنا نقوم بتدريس نفس الموضوعات؟
- هل حدث أن إلتقيت بنافع أو جرى بينكما أي إتصال منذ خروجك من الإعتقال؟
لا. لكن صديقا مشتركا من قدامى الزراعيين والإسلاميين هو الدكتور عثمان أبوزيد روى لي بالحرف، قبيل زيارة نافع الأخيرة لبريطانيا، دون أية مناسبة، ما يعني أنه أراد توصيل رسالة لي,,. “في لقاء قريب لي مع نافع سألني، كيف تقضون أوقاتكم هذه الأيام، فذكرت له ضمن أشياء أخرى أننا، مجموعة من الزملاء من قدامى الزراعيين، نلتقي مساء كل ثلاثاء بنادي الزراعيين. سألني من هم؟ ولما ذكرت إسمك قال لي: غريبة.شخص بهذا الإسم تماما فتح بلاغ ضدي في لندن إدعى أنني عذبته، وهذا لم يحدث إطلاقا لأنني لا اعرف هذا الشخص”. قلت له بلغ نافع أن الشخص الذي بهذا الإسم موجود في السودان، وما عليك إلا أن تفتح بلاغا ضده بتهمة إشانة السمعة. فضحك وقال: لن يفعل (أو ربما: لن أفعل).
- وماذا ترى في ذلك؟
أرى كما كتب صديقنا محمد ابراهيم الشوش رد الله شوشته، في مقال طريف في عموده الذي كان راتبا ومقروءا في الأهرام المصرية في تسعينات القرن الماضي، مقتبسا قول استاذنا الكبير الدكتور عبدالله الطيب في مناسبة مماثلة:
وقال الجن رب رابو ترب رابو
ومعناها بلغة الإنس هذا المرء كذّابُ
لربما كان الدكتور يقوم ب بروفة للمشهد الذي توقعه في السفارة السودانية بلندن. لكن مهما يكن الأمر، فأنت يا أخي بشرى أدرى بهذه النوعية من البشر. إنه أقرب لشخوص قصصك القائمة على ال virtual reality. ولو أتيح لي إعادة تلك المحاضرة التي ألقيتها على طلاب البكالوريوس المتوسط في ذلك الخميس الذي وافق الثلاثين من نوفمبر 1989، فربما أضفت لتصنيف الممالك الخمسة للكائنات الحية مملكة سادسة هي مملكة الطفابيع، لأن هذا المخلوق ليس إلا طفبوعا من جنس الطفابيع. وربما يتيح لي هذا الإكتشاف أن أشاركك في براءة الإختراع، وربما جائزة نوبل أيضا.
- كيف تسنى لنافع معرفة القرار السري للغاية للجنة النقابة التنفيذية وفي حينه، كما هو واضح من الإستجواب؟
هذا السؤال مردود لك بصفتك عضوا في تلك اللجنة. إن ثقتي تامة في أعضاء اللجنة، وأستبعد تماما أن يلعب أي منهم دور ال agent-provocateur. ولا أقول أن نافع عنده علم الغيب، أو أنه ملك. لكن هؤلاء الكيزان ظلوا يوهمون الناس بقدرتهم على إستخدام الجن بمناسبة وبدون مناسبة. ألا يجعلك ذلك تميل لتصديقهم، خاصة وأنه لم يعد ذلك الأمر محجورا لهم، بدليل الكاميرا التي قام الأستاذ التجاني الطيب بتصويرنا بها في كوبر.
- (قبل السؤال اسمح لي الرد بهذه الاستطرادة: ليس من الصعب أن يضعوا ليلاً أجهزة تنصت في جميع مكاتب أعضاء اللجنة التنفيذية. في تلك الأيام لاحظ أحد زملائنا في اللجنة شاباً إيرانياً يقال أنه كان طالب دراسات عليا يرابض أمام مكاتب بعينها ويفتح صفحة جريدة مشرعة أمام وجهه ؛بينما تتجول عيناه من أول الممر إلى آخره في إحدى الكليات حيث تلك المكاتب).
- ذكرت في مذكرتك للرئيس البشير من السجن العمومي التي أرسلت منها نسخة لمدير جامعة الخرطوم، لعناية مجلس الأساتذة، بتاريخ 29 يناير 1990، فيما يتعلق بما أخطرك به الفريق بكري عن تعذيبك بسبب تدريس تظرية التطور الدارونية للطلاب:
“أما بالنسبة لمحتوى المواد التي أقوم بتدريسها، فلا يفوتني أن أؤكد أن مجلس أساتذة جامعة الخرطوم هو المرجع الوحيد المخول له قانونا تحديد المناهج الدراسية والفتوى بشأنها”.
وقد كان تعذيبك لذلك السبب تعديا على صلاحيات الجامعة ومجلس أساتذتها قبل أن يكون عدوانا شخصيا عليك، فما الذي فعلته الجامعة بهذا الصدد؟
إدارة الجامعة لم تفعل شيئا قط. أما الطلاب، فقد أقامت رابطة العلوم إحتفالا بالكلية بمناسبة خروجي من الإعتقال، حضره الطلاب والأساتذة من كل الإتجاهات وقدمت لي فيه الرابطة هدية قيمة، كما دعيت بهذه المناسبة كضيف شرف لليلة شعرية أقامتها الرابطة ألقيت فيها قصيدة صلاح أحمد إبراهيم، أحبك حبان، من الطبعة الثانية لغابة الأبنوس.
- متى فصلت من الجامعة؟
لم افصل من الجامعة، وإنما تم تجديد خدمتي لخمس سنوات وفق النظام المتبع حينها، وذلك حينما بلغت سن الستين في السادس من أبريل 1991، بعد عام ونصف من الإعتقال تقريبا. لكنني غادرت السودان وتركت العمل بالجامعة في يونبو 1991 إحتجاجا على عجز إدارة الجامعة عن عرض الشكوى التي تقدمت بها لمجلس الأساتذة، عجزها عن حماية نفسها قبل حمايتي.
- ماذا فعلت لاحقا لمتابعة هذا الشق الأكاديمي من الشكوى التي تقدمت بها؟
لقد أوليت هذا الأمر نفس الإهتمام الذي أوليته لقضية التعذيب. من ضمن ما فعلت بهذا الصدد إثارة الموضوع في مؤتمر التعليم العالي الذي أقمناه في القاهرة في أغسطس 1998. وأرفق لك المذكرة التي تقدمت بها للمؤتمروقراره بشأنها.
الزملاء والزميلات رئيس وأعضاء مؤتمر التعليم العالي المحترمين،
الموضوع: ما جدوى قيم الحرية الأكاديمية والإستقلال الأكاديمي وقوانين كفالتها لو فقدنا الإستعداد للدفاع عنها عند الخطر؟
كما تعلمون فقد تعرضت للإعتقال والتعذيب في بيوت الأشباح في الفترة من 30 نوفمبر 1989 حتى فبراير 1990. وكان من بين الأسباب التي أدت لذلك كما ذكر لي العميد بكري حسن صالح رئيس جهاز الأمن وعضو مجلس قيادة الثورة وقتها، وكان من بين الحفنة من رصفائه الذين أشرفوا على تعذيبي، أن محتوى المقررات التي أقوم بتدريسها في كلية العلوم، وبالذات نظرية التطور، كان من بين الأسباب التي دعتهم لذلك.
وقد كتبت مذكرة كما تعلمون من داخل السجن لرئيس النظام (وراعي الجامعة) بتاريخ 29 يناير 1990 ، أرفق لكم صورة منها سردت فيها الوقائع وطالبت بالتحقيق ومحاكمة المسئولين، مع صورة منها للمختصين بالأمر، ومن بينهم العميد بكري، أكدت فيه على أنه:
“أما بالنسبة لمحتوى المقررات التي أقوم بتدريسها، فلا يفوتني أن أؤكد أن مجلس أساتذة جامعة الخرطوم هو المرجع الوحيد المخول له قانونا تحديد المناهج الدراسية والإفتاء بشأنها”.
وبينما قامت وزارة الداخلية بتسليم المذكرة وصورها لكل الذين وجهت إليهم، كما أخطرني بذلك رسميا مدير السجن العمومي، ومن بينهم مدير جامعة الخرطوم، فقد قمت بتسريب المذكرة لزملائي الأساتذة الذين قاموا بتسريبها على نطاق واسع داخل الجامعة وخارجها. وكان نتيجة ذلك أن قامت حملة تضامن واسعة أدت لأن يعتقل محرر الفيتانشيال تايمز بيتر أوزين الذي جابه العميد بكري وغيره من المسئولين بصورة المذكرة كما كتب في المقال الذي نشره بذلك الخصوص في صحيفته. ونشرت صحيفة New Scientist البريطانية مقالا إفتتاحيا بهذا الخصوص أرفق لكم صورته. وكتب لفيف من العلماء رسالة في مجلة Science الأمريكية المرموقة يطلبون فيها تضامن المجتمع العلمي وكان لها مردودها. كما لعبت منظمتا Amnesty International و Africa Watch وغيرهما دورا مقدرا، كان من نتيجته أني بقيت خارج السجن لحين مغادرتي الخرطوم في يونيو 1990م.
ما أكتب بصدده أن الجهة الأولى التي انتهكت حريتها وحقوقها – إلى جانبي طبعا – وهي مجلس أساتذة جامعة الخرطوم، وهو نفس مجلس الأساتذة الذي كان قائما بمقتضى قانون 1986 لجامعة الخرطوم، لم يعرض عليه الأمر. ولم يعرض ذلك أولا لأن مدير جامعة الخرطوم المنتخب من الأساتذة بنفس قانون 1986م الدكتور يوسف فضل حسن، وهو بحكم منصبه رئيس مجلس الأساتذة عجز عن طرح رسالتي أمام مجلس الأساتذة الذي انعقد برئاسته ولم يتخذ أي إجراء بشأنها قبل أن يطيح به النظام. وثانيا عجز مديرو جامعة الخرطوم الذين خلفوه عن طرح رسالتي أمام المجلس، من الواضح لأنهم جزء من النظام الحاكم وسياساته، وهم بذلك يتحملون مسئوليتهم. ومن المؤسف أن الدكتور نافع علي نافع، زميلي في هيئة التدريس الذي كان طالبا في الجامعة حينما كنت من أساتذتها في الستينات، هو الذي أشرف بنفسه على ممارسة العذيب. بالمقابل فإنه لا يفوتني في هذا الصدد أن أشيد بدور جمعية العلوم من الطلاب الذين أقاموا لي إحتفالا مفتوحا في الكلية، في تحد سافر للنظام وهو في أوجه، إستنكارا لإعتقالي وتعذيبي.
لقد امتنعت عن ممارسة أي عمل في جامعة الخرطوم بعد خروجي من الإعتقال، دون أن أكتب رسالة إلى إدارتها التي عجزت عن التصدي لحماية نفسها قبل حمايتي، ففقدت بذلك إحترامي لها. ولن تطأ قدماي قاعة من قاعات محاضراتها أو مختبرا من مختبراتها – لو مد الله في أيامي – إن لم يجتمع مجلس أساتذة جامعة الخرطوم للنظر في موضوع الشكوى التي تقدمت بها.
وأنهي رسالي بالسؤال الذي بدأتها به:
ما جدوى قيم الحرية الأكاديمية والإستقلال الأكاديمي للجامعات وقوانين كفالتها لو أننا نفقد الشجاعة للتصدي لحمايتها ساعة الخطر؟
فاروق محمد ابراهيم
(وقد أصدر المؤتمر نداءا حول وقائع الإعتفال والتعذيب نبه فيه إلى أن مثل هذه الجرائم لا ينبغي أن تحدث دون أن يرتفع فيها الصوت الأكاديمي عاليا إحتجاجا ومقاومة).
- ماذا بوسع مجلس أساتذة جامعة الخرطوم فعله بهذا الصدد؟
مجلس أساتذة الجامعة سلطة أكاديمية، وبهذا الصدد فهو أيضا سلطة لها وزنها فيما يتعلق بأخلاقيات العلم والمعرفة. المجلس يستطيع أولا رد الإعتبار لنفسه بالنظر في الرسالة التي وجهتها له وإتخاذ قرار بشأنها. والمجلس يستطيع أيضا نزع درجة البكالوريوس التي منحها للدكتور نافع وأن يخطر الجامعات التي حصل منها نافع على درجتي الماجستير والدكتوراة بالقرار وحيثياته. وذلك ما كتبته من قبل في صحيفة الأيام ردا على التعقيبات التي نشرت، وما دعوت أساتذة وطلاب جامعة الخرطوم خاصه وأساتذة وطلاب الجامعات السودانية عامة المطالبة به. وذلك يفتح الباب واسعا أمام مجلس الأساتذه لإزالة كل التشوهات التي أدخلها نظام الإنقاذ على التعليم العالي في السودان.
- اترى أنك جنحت للحقيقة والإعتذار والمعافاة من جانب واحد؟ لم لم تلجأ للقضاء، فمقامك كأستاذ جامعي يحظى بإحترام كل من تعامل معه فضلا عن إحترام وتقدير المئات من طلابك، ألا يستحق ذلك أن يوضع في الإعتبار؟
نعم جنحت للحقيقة والإعتذار والمعافاة من جانب واحد. لكنني لم أتوقف قط عن المقاضاة، منذ الشكوى التي بعثت بها من السجن مطالبا بالتحقيق والمحاكمة. ولما استحالت المحاكمة بسبب قوانين الحصانة والتقادم التي حمى النظام نفسه بها، رفعت مع آخرين ومع المنظمات الحقوقية في لندن القضية الشهيرة، بالطريقة التي وردت الأشارة إليها. ولما فتح باب التقاضي بشأن دستورية هذه القوانين عند قيام المحكمة الدستورية التي تأسست بمقتضى إتفاقية السلام للعام 2005، فقد عكف الفريق المتميز من المحامين الذين كان من أبرزهم الأستاذين محمد ابراهيم خليل والصادق الشامي، على إعداد القضية حال إجازة قانون المحكمة الدسنورية، وذلك بإعتبار أنها قضيتهم مثل ما هي قضيتي. وحينما أفتت تلك المحكمة – العليا في البلاد – بدستورية تلك القوانين، لجأنا للمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان، حيث لا زالت القضية قيد النظر في مقر المحكمة.أما بالنسبة للحقيقة والإعتذار والمعافاة، فإليك ما جاء في مذكرتي للرئيس البشير:
“إنني إنطلاقا من نفس المفهوم (الحقيقة والإعتذار والمعافاة) أدعو السيدين بكري ونافع ألا تأخذهما العزة بالإثم، أن يعترفا ويعلنا حقيقة ما جرى بحقي وبحق المهندس بدرالدين إدريس في بيت الأشباح رقم واحد، وأن يبديا أسفا وندما حقيقيا، وأن يعتذرا إعتذارا بينا معلنا في أجهزة الإعلام، وأن يضربا المثل والقدوة لمن غررا بهم وشاركوهم ممارسة التعذيب وائتمروا بأمرهم. حينئذ فقط يتحقق التعافي وأتنازل عن كافة حقوقي. ولا يكون هنالك داعي للجوء للمحاكم ويصبح ملف التعذيب المتعلق بشخصي مغلقا تماما”.
وأما فيما يتعلق بحقوق أسرة بدر الدين وغيره من ضحايا التعذيب، فالأمر متروك لهم، شريطة توفر القضاء العادل وحكم القانون بالطبع.
- هل تقبل إعتذار نافع الآن، برغم كل ما حدث، وبرغم الصلف والكبرياء الزائف؟
نعم يا أخي بشرى. ذلك طبعا إذا ما كان الإعتذار حقيقيا وصادقا. ومحك الصدق الإقرار بكل الجرائم وحقيقة ما جرى ودوره ودور كل من شاركوه وائتمروا بأمره، من جريمة شهداء رمضان وعلي فضل ومحمد عبدالسلام، والحقيقة كاملة فيما يتعلق بمأساة بدر الدين.
- ألا ترى أنه لن يفعل ذلك. أنت تطلب المستحيل. هل تتوقف المطالبة بالمحاكمة والقصاص القانوني بناء على ذلك؟
ليس هنالك مستحيل على الله. إن الله يهدي من يشاء وقتما يشاء. وأنا لا أطلب لنافع ورصفائه الإنقاذيين ولنفسي إلا الهداية والعدل وحكم القانون. نحن لا نحقد ولا نريد الإنتقام, وبالطبع فإن المطالبة بالقصاص وبالمحاكمة العادلة لا ترجأ لليوم الذي يهتدي فيه نافع وغيره من مرتكبي هذه الإنتهاكات. وإن القصاص والعفو وجهان لعملة واحدة. ومن صبر وغفر فإن ذلك من عزم الأمور.
- اسمح لي في الختام أستاذنا فاروق أن أشكرك كثيراً على كل هذه الايضاحات والافادات. أنت الآن في الثمانين من عمرك وتتمتع بذهن صاف ووقاد ،وذاكرة حديدية.وإن لم يتم انصافك فسينصفك شعبنا وأجياله الصاعدة .
No comments:
Post a Comment